فصل: تفسير الآيات (178- 181):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (178- 181):

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}
ذرأنا: خلقنا. الجن: خلاف الانس الفقه: العلم بالشيء والفهم به. ويرد في القرآن الكريم المعنى دقة الفهم والتعمق في العلم.
بعد أن أمر الله تعالى نبيه الكريم ان يقصّ خبر ذلك ضلّ على علم منه، يقصَّه إلى اولئك الضالين لعلهم يهتدون ويتركون ما هم عليه من الاخلاد إلى الضلالة، والكفر- بيّن هنا ان اسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعدّ لأحدهما إلى احدى الغايتين بتقدير الله والسيرِ على سنّته في استعمال مواهبه الفطرية، وان الهدى هدى الله.
فمن يوفقه الله لسلوك سبيل الحق فهو المهتدي حقا، الفائز بسعادة الدارين؛ ومن يُحرم من هذا التوفيق بفعل سيطرة هواه فهو الضال خسِر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
ثم فصّل سبحانه ما أجملَه في الآية السالفة مع بيان سببه فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ....}.
ولقد خلقْنا كثيراً من الجن والانس مآلهم النار يوم القيامة. وتتساءل لماذا؟ فتأتي الإجابة: لأن لهم قلوباً لا يَنقُذون بها إلى الحق، وأَعيُناً لاينظرون بها دلائل القدرة، وآذاناً لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماعَ تدبُّرٍ واتعاظ، أفليس اصحاب هذه الصفات كالبهائم، ما داموا لم ينتفعوا بما وهبهم الله من عقول للتدبر، بل الحقّ إنهم اضل منها، فالبهائم تسعى إلى ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء لا يدركون ذلك، فيظلون غافلين عما فيه صلاحهم في الدارين.
ثم بعد ذلك ذكرت الآيات الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج إلى ضدها وهي ذِكْر الله ودعاؤه في السرّ والعلَن في جميع الاوقات.
ولله دون غيره الأسماءُ الدالة على أكمل الصّفات فاذكروه بها، دعاءً ونداءً وتسمية، واتركوا جميع الذين يلحدون في اسمائه فيما لا يليق بذاته العلّية، لأنه سيلقَون جزاءَ علمهم، وتحلُّ بهم العقوبة.
وللذِكر فوائد، منها: تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، ونسيان آلام الدنيا. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الدعاء والالتجاء إلى الله، منها الحديث الصحيح: «من نزل به غَم أو كربٌ، أو أمرٌ مهم فليقل: لا إله الا الله العظيم الحليم، لا إله الا الله ربّ العرش العظيم، لا إله الا الله ربّ السماوات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وروى الحاكم في (المستدرك) عن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: «ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به؟ ان تقولي إذا أصبحتِ واذا أمسيتِك يا حيّ يا قيّوم، برحمتِكَ أَسغيث، أصلحْ لي شأني، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين».
ثم بيّن وصْف أُمة الإجابة، وهي الامة الاسلامية، الذين أجابوا وأطاعو وهدوا بالحق وبه يَعدِلون.
وممن خلَقْنا للجنة طائفةٌ يدعون غيرهم للحق بسبب حُبِّهم له، ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون.
أخرج ابنُ جَرير وابن المنذِر وأبو الشيخ عن ابن جُريج قال: ذَكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذه أمتي، بالحق يحكُمون ويقضون ويأخذون ويعطون».
فهذه الأمة الثابتة على الحق، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس. وفي الحديث الصحيح: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحق».

.تفسير الآيات (182- 186):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
سنستدرجهم: سنأخذهم درجة بعد درجة، أي شيئا فشيئاً إلى العذاب. أُملي لهم: امهلهم. الكيد، كالمكر: هو التدبير الخفي. الجِنة: ما يصيب الإنسان من صرع وغيره من الجنون. الملكوت: الملك العظيم فبأي حديث بعده يؤمنون: الحديث هنا القرآن الكريم الطغيان: تجاوز الحد في الباطل والشر. العمَة: التردد والحيرة بحيث لايدري اين يتوجه.
والّذين كذّبوا بآيات الله سندعهم يسترسلوه في غيّهم وضلالهم حتى يصلوا أقصى غاياتهم، وذلك بإدرار النعم عليهم، ومع انهماكم في الغي، حتى يفاجئهم الهلاك وهم غافلون.
إنني أُمهل هؤلاء المكذّبين وسأمد لهم في الحياة بدون اهمال، لكن أخْذي لهم سيكون شديدا، بقدر سيئاتهم الّتي كثُرت بتماديهم فيها، وفي الحدث الصحيح: «ان الله لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
كان زعماء قريش يقولون للناس: إن محمداً مجنون.. فردّ الله عليهم بقوله: أو لم يتفكروا في حاله من بدءِ نشأته! إنهم يعرفونه حقا. أما كان اسمه الامين! وهم يعرفون حقيقة دعوته ايضاً، انه سليم العقل، لا جنون به، بل هو منذر لهم، ناصح ومبلّغ عن الله رسالتَه إلى الناس كافة. ولو تأمل مشركو مكة في نشأته صلى الله عليه وسلم وما عُرف عنه من الامانة والاستقامة والصدق لما نزعوا إلى هذه الفِرية على رجلٍ عرفوه، ولأدركوا أن ما يأتي به من عند ربه لن يصدر عن مجنون.
لقد كذّبوا محمداً فيما يدعوهم اليه من التوحيد، ولم يتأملوا في هذا الملكوت العظيم من السماوات والأرَضِين وما فيها، مما يدل على قدرة الصانع ووحدانيته. كذلك لم يفكروا في انه قد اقترب أجلُهم، فيسارعوا إلى طلب الحق قبل مفاجأة الاجل. والحقّ أنهماذا لم يؤمنوا بالقرآن فباي حديث بعده يؤمنون!!
ثم يعقب تعالى بتقرير سنّته الجارية بالهدى والضلال، وفق ما ارادته مشيئته: هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه، واضلال من يصرف قلبه عنه فيقول: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وتفسير ذلك: إن من يكتب الله عليه الضلال لسوء اخياره هو يظل في بُعدِهِ عن الحق وعماه عنه، وحيرته بحيث لا يدري أين يتوجه. وليس في هذا الإهمال ظُلم لأنه جاء بعد البيان والتحذير.

.تفسير الآيات (187- 188):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}
الساعة: القيامة، ايان: متى. مرساها: وقت حصولها. يجلِّيها: يظهرها. بغتة: فجأة حفيّ عنها: عالم بها، مختم بالسؤال عنها.
بعد أن أرشد اللهُ من كانوا في عصر التنزيل إلى النظر والتفكير في اقتارب اجلهم بقوله: {عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكير في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع من على هذه الأرض. وقد كانت عقيدة الآخرة والحشْر وما فيها من حساب وجزاء غريبةً عن أهل الجزيرة العربية، وكانوا يعجبون من الحياة بعد الموت، ومن البعث للحساب والجزاء. لذلك كله كان التوكيد في القرآن شديداً على عقدية الآخرة.
يسألك مشركو مكة يا محمد عن الساعة والقيامة في أي وقت تكون؟ قل لهم عِلمُ وقتها عند ربي وحده، لا يكشف الخفاء عنها احد سواه، فقد ثَقُلت وعظُم هلوها، وهي لن تأتيكم الا فجأة بلا إشعار ولا انذار وهم يسألونك هذا، وكأنك عالِم بها حريصٌ مهتم بالسؤال عنها، فكرر عليهم الجواب بأن علمها عند الله، ولكن اكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم.
قل لهم أيها الرسول: إني لا أملِك لنفسي جَلْب نفعٍ ولا دفع ضرر الا ما شاء الله ان يقدِّرني عليه. ولو كنت اعلم الغيبَ كما تظنون، لاستكثرت من كلّ خير، ولدفعتُ عن نفسي كل سوء. لكن الحقّ أني لست الا نذيراً للناس أجمعين فالذين يؤمنون ينتفعون بما جئت به، ويذعنون للحق.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل، بشر لا يدّعي الغيب، بل إنه مأمور ان يَكِلَ الغيب إلى الله، فذلك من خصائص الألويهة، أما الرسل فهم عباد مكرّمون لا يشاركون الله في صفاته ولا أفعاله، وانما اصطفاهم تبليغ رسالته لعباده، وجَعَلَهم قدوةً صالحة للناس في العمل لما جاؤا به من هدى وفضيلة.

.تفسير الآيات (189- 190):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
ليسكن اليها: ليأنس بها ويطمئن إليها. تغشّاها: باشرها في الاتصال الجنسي، وهو من التعابير القرآنية المهذَّبة. فمَرَّت به: استمرت بالحمل ولم تُسقطه. اثقلت: حان وقت الولادة. صالحا: ولد سوياً تام الخلقة.
فيه هاتين الآيتين تمثيل لطبع الإنسان وكيف انه: إذا نزل به ما يكره، أو أراد الحصول على ما يجب- اتلجأ إلى الله يتضرع، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق ان يشكر الله ويطيعه إذا حقق له ما يريد، فاذا تمّ له ما طلب تولى مُعرِضا ولم يوفِ بالعهود والمواثيق.
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل زوجها من جنسها، وكانا يسكنان معا فلما قاربَ الذكرُ الانثى عَلِقت منه. وكان الحمل في اول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، فلما ثقل الجنين دعا الزوج والزوجة ربهما قائلَين: والله لئن رزقتنا ولدا سليما تام الخلقة، لنكونن من الشاكرين لنعمائك. ونالا ما طلبا، لكنهما جعلا الأصنام شركاء في عطيته الكريمة، وتقربا إليها بالشكر، والله وحده هو المستحق لذلك فتعالى اللهُ يُشِركون.
وهناك بعض الروايات المأخوذة من الاسرائيليات تنسب هذه القصة لآدم وحواء وهذا خلط وتخريف.

.تفسير الآيات (191- 198):

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}
افتُتحتْ صورة الأعراف بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتّباع ما انزل الله والنهي عن اتّباع من دونَه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الاولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وفيها التذكير بالنشأة الاولى والنهي عن التشِرك. والآية هاهنا تتساءل:
هل يصحّ ان يشركوا مع الله أصناماً لا تقدِر أن تخلُق شيئا من الاشياء، بل هي أضعف مخلوقاته! ان الخلق والأمر لله، هو وحده يخلق كل شيء.
ولا تستطيع هذه الاصنام ان تنصر من يعبدونها، بل حتى ان تردّ الأذى عن نفسها إذا تعدى عليها احد.
وإنْ تدْعوا ايها العبادون لغير الله هذه الاصنام طالبين ان ترشدكم إلى ما تحبون، فإنها لن تجيبكم. ان دعاءكم إياها وعدمه سواء، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا تهدي ولا تهتدي. أما الرب المعبود الذي بيده كل شيء فهو الله.
ثم بالغ في الردّ عليهم واثبت أنّها أحط منزلة من الناس، ووبخهم على عبادة تلك الحجارة والاصنام، فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ...}.
بل ان هذه الاصنام اقل منكم في الخلق والتكوين، فهل لهم ارجل يمشون بها؟ أو أيدٍ يدفعون بها الضر عنكم وعنهم؟ أو اعين يبصرون بها؟ أو حتى آذان يسمعون بها ما تطلبون منهم؟ ليس لهم شيء من ذلك، فكيف تشركونهم مع الله؟
وهذ التحديث للمشركين ليبني جهلهم وعجز آلهتهم، وقد تحداهم في اكثر من آية ولهم عجز هذه الآلهة. من ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
وبعد أن تحدى المشركين وآلهتهم قال لهم: إن الله هو مولِّي أمري وناصري، الذي نزّل عليّ القرآن، وهو وحده الذي ينصر الصالحين من عباده.
ثم اكّد هذا التحدي بقوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} وقد تقدم هذا في الآية 192، وجاء التكرار ليؤكد ان هذه الأصنام لن تناله بأذى وأنها أعجزُ من أن تنصر أحداً.
وبعد ذلك أضاف... وإن تسألوهم الهدايةَ إلى ما فيه خيركم لا يسمعوا سؤالكم، وإنّك يا محمد لتراهم ينظرون إليك، وهم في الحقيقة ولا يَرَوْن شيئا، لأنهم مجرد حجارة وتماثيل لا حياةَ فيها ولا حِسّ.

.تفسير الآيات (199- 203):

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
العفو: الذي يأتي من غيرِ كُلفة. ينزغ: يوسوس بالشر. والنزغ: وساوس الشيطان وما يحمل به الإنسانَ على المعاصي. طائفٌ من الشيطان: ما يدور في خيال المرء من وساوس. اجتبيتها: افتعلتها.
جاءت هذه التوجيهات الربانية إلى الرسول الكريم وأصحابه، وهم لا يزالون في مكّة المكرمة، وفي مواجهة المشركين فيها ومواجهة الأعراب من حولهم في الجزيرة وأهل الأرض كافة.
يا محمد، خذ العفو الميسَّر الممكِنَ من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب منهم ما يشقّ عليهم، واعفُ عن أخطائم وضعفهم. ذلك ان التعامل مع النفوس البشرية بغية هدايتها يقتضي سعةَ صدرٍ، وسماحة طبعٍ، ويسراً في غير إفراطٍ ولا تفريط في دين الله، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الكمال والخلق العظيم.
وامرْ يا محمد بالعُرف، وهو الخير المعروف، والعُرف اسمٌ جامعٌ لك ما عرف من طاعة الله والتقرب اليه والإحسان إلى الناس.
وأعرض أيها الرسول الهادي عن الجاهلين، وهم الذين لا تُرجى هدايتهم، إذ قد يكون إهمالهم والإعراض عنهم أجدي في هدايتهم.
روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه انه قال: (ليس في القرآن آيةٌ أجمعَ لمكارم الأخلاق من هذه) وقال بعض العلماء: تضمنت هذه الآية قواعد الشريعة، فلم يبق حسنة الا وعتْها، ولا فضيلة الا شَرَحتها.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ان عُيَبْنَةَ بن حِصْن، وكان فيه غلظة وجفاء، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هِيْ يا ابن الخطاب، أفو اللهِ ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر، حتى همّ ان يوقع به. فقال له الحُرّ بن قيس: يا امر المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: {خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين} وهذا من الجاهلين.
قال ابن عباس: والله ما جوزَها عمرُ حين تلاها عليه، كان وقّافاً عند كتاب الله.
وان تعرَّض لك يا محمد من الشيطان وسوسةٌ لصرفِك عما أُمرت، كأن تغضب من لجاجتهم بالشر فاستجرْ بالله يصرفه عنك، إنه سميع لكل ما يقال عليم به.
ثم بيّن الله طريق سلامةِ مَن يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصيةِ فققال: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
ان اخبار المؤمنين المتقين، إذا ألمَّ بهم من الشيطان وسوسةٌ تذكّروا أن ذاك من إغواء الشيطان عدوِّهم، وعند ذاك يبصرون لاحق فيرجعون عن الأخذ بتلك الوسوسة.
هذا حال المتقين أما اخوان الشياطين من الكفار، فان الشياطين تزيدهم ضلالا بالوسوسة، بذلك فهي تمدهم في غيّهم وافسادهم. ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامِهم.
واذا لم تأت يا محمد الكفار الذين يعاندونك بآية مما يطلبون، قالوا هلا اختلقتها؟ قل لهم: إنني لا أتّبع الا القرآن الذي يوحي اليّ من ربي، وفيه بصائر وحجج تهديكم إلى وجوه الحق والخير، فهو نبع هدى يرشد، ورحمةٍ تغمر المؤمنين وتفيض عليهم البركات.